-->

رمضان كريم 2024/1445

رمضان كريم
رمضان كريم
رمضان كريم

السبت، 30 مارس 2019

المحاضرة الثامنة والأخيرة في مادة نظرية الإلتزام في الفقه الإسلامي

نظرية الإلتزام


المحاضرة الثامنة والأخيرة في مادة:
نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي فوج ¾
**************************

« آثــار الـعـقـد (تتمة) »

·       آثار العقد الصحيح الموضوعية: (أنظر المحاضرة السابعة)
1.    الحق في توضيح العقد (تفسيره): (أنظر المحاضرة السابعة)
2.    نشوء الإلتزام: (أنظر المحاضرة السابعة)

~ حصول الخطأ: ويقصد به عموم الإخلال بالالتزام في العقد ، سواء كان سبب ذلك الإخلال العمد أم الإهمال ، ويعتبر من مشمولات الخطأ أيضا أن يرفض العاقد تسليم المحل للعاقد الثاني مثلا.
 ~ تحقق الضرر:   لا يكفي لقيام المسؤولية العقدية أين يحصل الخطأ من عاقد ،  بل لابد أن يقابله ضرر محقق أو في حكم المحقق في العاقد الثاني ،  ويشترط في هذا الضرر أن يكون نتيجة العقد ومرتبطا بالمحل المتعاقد عليه لا خارج عنهما.
 ~ وجود علاقه السببية:  وهي أن يكون تحقق الضرر نتيجة خطأ حاصل من أحد العاقدين ، بحيث إذا لم تثبت الصلة بين ضرر و خطا ما ، لم تنشأ المسؤولية العقدية.

3.    تحقق الإلزام:

وهو أثر المسؤولية العقدية ، و معناه أن يجبر المتسبب في الخطأ على تنفيذ التزامه كما كان متفقا عليه ابتداء ،  وإذا تعذر ذلك التنفيذ ثم اللجوء إلى التعويض ، والغالب أن يكون الوسيلة التي يتم بها التنفيذ لدرجه أنه صار عنوان المسؤولية العقدية. على أن هذا التعويض قد يكون اتفاقا بين العاقدين بالتراضي أو يبث فيه القاضي حكماً .

·        آثار العقد الصحيح من جهة الأشخاص:

   الأصل أن القاعدة في العقود أنها لا تنفع ولا تضر غير عاقديها ، فكلما نشأ العقد صحيحاً رتب ضرورة آثار على عاقديه ، لكن ذلك الأثر قد يتعداهما بالانصراف إلى خلفائهما ، والخلف قد يكون خلفاً عاماً أو خلفاً خاصاً.

1.    الخلف العام:

    وهو من يخلف العاقد في كامل ذمته المالية أو في بعض منها إذا كانت مجموع مال ، كالوارث الذي يخلف المورث في تركته أو الموصى له بمقدار الثلث من التركة إلا أن يجيزها الورثة ، ومن أمثلة الخلف العام أيضا أن يخلف أفراد قبيلة أسلافهم في انتفاع دائم بعقار باعتباره مجموع مال على وجه الشيوع.
    وانتقال أثر التعاقد إلى الخلف العام ليس دائما مطرداً ، فقد تكون طبيعة المحل لا تسمح بذلك كما في حق الانتفاع الذي ينقضي حتما بموت المؤجر نقصد عقود الإجارة لا عقود الكراء وكذا في عقد الشركة ، أو قد يتفق العاقدان اتفاقاً إرادياً على عدم انتقال أثر العقد إلى الخلف العام.

2.    الخلف الخاص:

   الخلف الخاص هو من يتلقى عن سلفه حقاً معيناً يرد على الشيء سواء كان حقاً عينياً أم حقاُ شخصياً ،  بمعنى أن هذا الخلف ناشئ من ذات المحل ، بمعنى أنه لا يخلفه في جميع ذمته المالية ، بل في ما حدد منها ،  فالعاقد الذي يسلم المحل للعاقد الثاني يكون سلفا له فيما سلم و يكون المتسلم خلفا خاصا له فيه ، والمنتفع بالشفعة في عقار مثلا هو خلف الخاص للبائع الذي كان شريكا ، فالمنتفع بالعين كالمكتري مثلا هو خلف الخاص للمنتفع السابق الذي نقل له المنفعة تولية لكنه ليس خلفا للمالك الحقيقي أي للمكري ، كما لا يكون المرتهن خلفاً للراهن بل هو دائن له وهكذا.
   وتجدر الإشارة إلى أن انتقال الأثر الى الخلف العام والخاص قد يقعان بوسيلة واحدة ، فإذا كان الخلف العام هو من تؤول إليه جميع الذمة غالبا بالإرث أو الوصية ، فإن الخلف الخاص لا يكون أبدا بالإرث وقد يكون بالوصية لأنها نقل بعض الذمة المالية ، والفرق بين الوصية في الخلف العام أنها تكون مجموعة مال وإن كانت في حدود الثلث فقط ، فيكون من عقار ومنقول وغيرها. أما الوصية في الخلف الخاص إنما هي وصية بعين محددة كدار مثلا او بعضا منها.

·        انـقـضاء الـعـقـد:

   الأصل أن ينتهي العقد بوفاء كل عاقد بشقه من الإلتزام سواء كان وفاء في الحال كما في التقابض أو بانتهاء المدة المحددة فيه ، لكن قد ينتهي العقد بالزوال أي قبل تحقيق المقصود منه ، وهو زوال لا يخلو أن يكون إما باختيار العاقدين معا (الإقالة) أو باختيار احدهما (الفسخ) ، وإما أن يكون اضطرارا بأمر خارج عن إرادتهما بسبب منافات لحق الشرع أو لسبب مانع في المحل وطارئ في العاقدين (الإنفساخ).

1.    انقضاء العقد بالوفاء:

   وهو انقضاء يتنوع بحسب أحوال المحل إلى انقضاء بتنفيذ الالتزامات المتبادلة ، أو بانقضاء المدة المعينة أو العمل المعين.
أ‌.        انقضاء بتنفيذ الالتزامات المتبادلة:
   ينقضي العقد وفاء حينما يبلغ مقصده ويدرك غايته في مجلس العقد ذاته ، بحيث ينفذ كل طرف التزامه تجاه الطرف الاخر بحضور المحل وتغير وضعيه ، كما في عقد البيع الذي يعتبر فيه تبادل العوضين (الثمن والمبيع) من غير ضرر ، تحقيقا كاملا وانقضاء تلقائيا العقد. لأنه قد بلغ نهايته بتغير المحل و انتقال ملكيته إلى العاقد الآخر ، وفقاً لما يوجبه التعامل بحسن النية و ما اشتُرط من أجل غير معطل لمقاصده.
ب‌.   انتهاء المدة المعينة أو العمل المعين:
   قد لا تسمح طبيعة بعض العقود أن تنتهي الالتزامات الناشئة فيها في مجلس العقد ، فقد تمتد لتُربط بمدة تطول أو تقصر حتى يحصل المقصود من التعاقد ، وقد يكون ذلك باتفاق بين العاقدين وقد يكون أيضا بسبب في المحل ، وغالبا ما يقع ذلك في العقود التي يكون فيها التزام أحد طرفيه هو القيام بعمل أو الامتناع عنه ، كما لو تعلق الأمر بعقد الإجارة المقيدة المدة أو ببعض أنواع الشركات كشركه الأبدان المحددة المدة بدورها ، أو بالإلتزام بعدم استعمال حق فكري شريط مسموع أو مرئي مدة معينة من الزمن دون إذن من صاحبه ، أو أن تتفق مثلا شركة للبترول مع دوله من دول العالم الفقير على أن تتحمل نتائج التنقيب ومصاريف التجهيز شريطة الاستغلال مدتة عشرين سنة.

2.    انقضاء العقد بالزوال:

   إذا كان انقضاء العقد في حالة الوفاة قد تحقق بوجود العقد وبتمام الالتزامات التي أنشاها تنفيداً وتغيراً في المحل ، فإن انقضاء العقد بالزوال لا ينصرف إلا إلى شيء واحد ، وهو الانقضاء دون بلوغ غايته ومقصد
    وأسباب الزوال متعددة كما أشرنا ، لذلك تنقسم منهجيا إلى أسباب اختيارية وإلى أخرى إضطرارية.

أ‌.        زوال العقد بالاختيار:

   الزوال بالاختيار يقصد به إختيار العاقدين دون غيرهما ، لأنهما منشآه وعليهما تترتب آثاره ، على أن هذا الاختيار إما أن يكون باختيار العاقدَين فيسمى إقالة وإما باختيار واحد منهما فيسمى فسخا.

  1.    الــفـسـخ:

   الفسخ "حل رابطة العقد ورفع حكمه بالإرادة " وهو لا يقع في العقود الملزمة للجانبين لتوقف تحققه على شروط واجبة في العاقدين معا ، لأن طلب الفسخ يلزم طالبه ببيان تنفيذ شقه من الالتزام أو على الأقل إثبات عزمه على ذلك وإلا لم يجز ، لذلك اشترط الفقهاء لتحقق الفسخ :
    أن يكون العقد ملزماً للعاقدين معا.
     أن يكون سبب تخلف أحد العاقدين عن تنفيذ التزامه إراديا ، وليس راجعا لسبب أجنبي أو قوة قاهرة مانعة.
     أن يكون طالب الفسخ قد نفذ التزامه أو مستعداً لذلك على الأقل ، وإلا اعتُبر مساوياً الآخر في نكوصه.

§        أنواع الفسخ:

   يتنوع الفسخ إلى قضائي واتفاقي :
    ~ الفسخ القضائي :
 والأصل في الفسخ أن يكون قضائيا أي بحكم القاضي وإن كان متعلقا بإرادة أحد الطرفين ، وسبب ذلك تلك الشروط التي مرت بنا والتي لا بد للقاضي أن يتحقق من وجودها حتى يقوم حق الفسخ ، وكذلك تريثا من أن يكون مطلب الفسخ مؤسساً على إخلال غير جسيم أو لعدم ثبوت قيام طالب الفسخ بإنذار العاقد الثاني ليفي بشقه من الالتزام .
    ~ الفسخ الاتفاقي (الرضائي) :
    لكن قد يكون الفسخ اتفاقياً أيضا ، وذلك في الحالة التي يتفق فيها العاقدان ابتداء على اشتراط الفسخ إذا أخل أحدهما بتنفيذ التزاماته ، بحيث يصير العقد مفسوخا من تلقاء ذاته و دون اللجوء إلى القضاء ، و هذا الاتفاق من الشروط الصحيحة عند الفقهاء والتي لا تتنافى مع العقد.
    ~ آثار فسخ العقد :
    يتحقق بالفسخ زوال العقد وإرجاع العاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد ، على اعتبار الفسخ يجعل العقد كأنه لم يكن ، وسواء في ذلك أن يكون الفسخ قضائياً أو اتفاقياً ، وهو ما يعبر عنه بالزوال بأثر رجعي من وقت الإبرام ، بحيث يقتضي أن يرد كل عاقد ما تسلمه بموجب العقد إذا تعلق الأمر بالعقود الفورية أو تلك التي لا تهلك بعموم التقابض ، وإذا لم  يمكن ذلك فبالتعويض في حق من استحالة عليه الإرجاع بسبب الهلاك أو لطبيعة العقد ، كما لو تعلق بشروع في عمل قطعت فيه مراحل من الإنجاز.
 وإذا كان الفسخ مستوجبا لإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل الإبرام ، وترتب عليه أن يكون العقد في حكم ما لم يوجد أصلا ، فإن ذلك لا يمحو آثار العقد بين العاقدين فقط ، بل يتعداهما إلى محوها في حق الغير الأجنبي عن العقد ، مثال ذلك من اشترى شيئا فقام برهنه ثم تبين أن عقد الشراء الأصلي يستوجب الفسخ ، فإن القاعدة أن يعيد المبيع الى البائع خالياً من حق الرهن الذي رتبه عليه للغير .

  2.    الإقــالـة:

   الإقالة هي اتفاق العاقدين على إلغاء العقد وإنهاء أثره ، لذلك استلزمت الإقالة شرطيين:
      أن يكون الإنهاء بتطابق إيجاب وقبول المتعاقدين في مجلس العقد.
      أن لا يتغير المحل بهلاك أو تلف أو تحول ، وأن تكون شروطه مجتمعة (وجودا وتعيينا . .) وقت الإقالة.
 ولعله واضح أن الإقالة تختلف عن الفسخ من جهة أنها برضا العاقدين معا دون أحدهما ، لكن الفارق المميز هو من جهة الآثار.
    ~ آثار الإقالة :
   تحكم الإقالة بقاعدة " الإقالة فسخ في حق المتعاقدين و عقد جديد في حق الغير" بمعنى أن الأثر يتنوع بحسب ما إذا تعلق بالعاقدين أو تعلق بالغير الأجنبي عن العقد ، على خلاف الفسخ الذي يمحي كل أثر في حق الجميع.
 وهكذا تعد الإقالة بالنسبة للعاقدين فسخاً ينهي أثر العقد المبرم بينهما فيدفع كل طرف ما استلمه بموجب العقد ويستلم ما سبق أن دفعه و معنى ذلك أن الإقالة تُرجع العاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرام العقد من غير آثار ، لكنها بالمقابل تحفظ حقوق الغير الأجنبي على العقد الذي وقعت فيه ، لذلك قال الفقهاء خاصه الحنفية منهم إنها عقد جديد في حق الغير الذي لا يد له فيما وقع من تبديل ، ثم إن ذلك التراضي بين العاقدين في الإقالة قد لا يكون المقصود به غير الإضرار بالأجنبي ، لذلك سدا للذريعة لم تسري عليه آثار ما اختاروه ، بحيث لو اشترى شخص شيئا ثم رهنه إلى شخص ثالث احتفاظا بالمثال نفسه الذي ذكرناه في الفسخ ثم حصلت الإقالة في ذلك الشيء بين العاقدين فإن المشتري يُرجع المبيع لتكن مثقلا بالرهن .

ب‌.   زوال العقد بالإضطرار (الإنفساخ):

§        شروط الإنفساخ:

   إن زوال العقد ضرورة أو ما يسمى ب "الانفساخ" هو استحالة التنفيذ ، وأسباب الإستحالة متعددة لكن يجمعها حكم واحد هو انحلال الالتزامات الناشئة عن العقد من تلقاء نفسها . و هذا الملمح يظهر جليا من الشروط المطلوبة في الانفساخ ، وهي :
       أن يكون العقد ملزما للعاقدين معنا.
       أن يستحيل تنفيذ العقد استحالة حقيقية على أحدهما أو كليهما.
       أن ترجع الاستحالة إلى سبب أجنبي لا يد للعاقدين فيه.

§        بعض أسباب الإنفساخ:

~ الانفساخ بالقوة القاهرة :
   وهي عنوان الاستحالة المطلقة و المعنى المقصود بالقوة القاهرة أكبر من أن تكون مجرد ظرف طارئ كما سنرى من بعض الأسباب اللاحقة. فقد تكون القوة القاهرة التي تنتج عنها الاستحال المطلقة راجعة إلى سبب متعلق بالمحل بحيث يجعل ظهور الأثر فيه مستحيلا كما لو استحال التسليم مثلا  ، وقد تكون تلك القوة القاهرة بسبب منع الشرع أو القانون نفسه وغالبا ما تقع لسبب في العاقدين  ، كما لو تزوج شاب فتاه ثم علم قبل الدخول أنها أخته من الرضاع ، فإن العقد هنا ينفسخ رضي العاقدان أم كرها. فهذا المنع يعتبر قوة قاهرة لإرادة العاقدين ، لذلك تطلق على عموم هذا السبب عبارة الانفساخ بقوة الشرع أو القانون.
       ~  هلاك المعقود عليه:
   تلف المحل سبب لانتهاء بعض العقود ، خاصة في عقود المستمرة المدة كما لو هلكت العين المؤجرة بعد إبرام العقد وقبل كل الانتفاع ، أما في العقود التي يظهر فيها الأثر فورا فإن تحقق التقابل يمنع الانفساخ كما في عقد البيع وما في حكمه ، اللهم إن كان سبب الهلاك في هذه أيضا آفة سماوية قبل القبض ، بحيث لا يكون بإهمال أو بتهاون من أحد العاقدين ، حينها يكون البيع أيضا محل انفساخ عند الحنفية وعلى تفصيل عند المالكية والحنابلة يميز بين الأموال المثلية والأموال المعينة.
    ~  وفاه العاقدين او احدهما:
يختلف الحكم بحسب نوع العقد ، فالأصل أن لا تؤثر وفاة أحد العاقدين أو كليهما في العقود اللازمة كالبيع وغيره ، لم يستثن إلا عقد الإجارة الذي اشتهر عن الحنفية مخالفتهم للجمهور فيه بقولة بانفساخه لزوما بموت المؤجر أو المستأجر ، أما العقود غير اللازمة كالوكالة والإعارة والوديعة ونحوها فهي غير متعدية ، إذ تنفسخ بوفاة أحد العاقدين أو كليهما لأن استمرار هذه العقود أو إنهائها لا يكون إلا بإرادة أحد العاقدين في حياتهما ، فكان أولى أن تنفسح بوفاة العاقد لانقطاع وبطلان إرادته تحقيقا.

« الإلتزام الناشئ عن الواقعة»« الــضـــــمـــــان»

·       تعريف:
·        الضمان لغه:
   يطلق الضمان في اللغة ويراد به معاني منها: الإحتواء ، الكفالة ، والالتزام والغرامة ، وغير ذلك من المعاني.
·        و في الاصطلاح الفقهي:
   يطلق  الضمان في الاصطلاح الفقهي ويراد به المعاني التالية:
 الاول:  إرادة معنى الكفالة به ، وهو أخص إطلاقاته.
 الثاني:  والمعنى الثاني للضمان أعمق من سابقه ويراد به شغل الذمة بما أوجب الشرع الوفاء به لسبب من الأسباب التي تنشئه .
الثالث:  إطلاق الضمان بمعنى الالتزام برد مثل التالف أو غرامته ، ومن هذا القبيل تعريف الإمام الغزالي بقوله: " الضمان واجب رد الشيء أو بدله بالمثل أو القيمة " ، و تعريف مجلة الأحكام العدلية في المادة 416 : " الضمان هو إعطاء مثل الشيء إن كان من المثليات ، وقيمته إن كان من القيميات".
     وعرفه الأستاذ الزرقا بقوله : "إلتزام بتعويض مالي عن ضرر للغير" وهو أول وأوضح التعاريف المذكورة.
   والمعنى الثالث للضمان هو الذي يهمنا ، وعلى أساسه تبنى نظريه الضمان في الفقه الإسلامي كما تُظهر ذلك كتابات الفقهاء المعاصرين.

·       مشروعية الضمان:

   ثبتت مشروعية الضمان عموما بأدلة تفيد اليقين لتواردها على إيجابه وشرع الضمان حفظاً للحقوق وجبراً للأضرار وزجراً للجناة ، في نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية ، ومن ذلك الآيات القرآنية المتعلقة بإرساء المسؤولية الشخصية ، كما في قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر:38] ، وقوله تعالى: { مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت:46] ، وقوله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [فاطر:18] ، وقوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة:194] ، وقوله سبحانه: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } [النحل:126] ، وقال عز وجل: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى:40] .
   ومن الأدلة من السنة ، ما رُوي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام بطعام ، وإناء بإناء» (أخرجه الترمذي).
   ومن الأدلة أيضا ما رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن».(أخرجه الدارقطني).

·       صلة مفهوم الضمان بمفهوم المسؤولية التقصيرية:

   اتفق الفقهاء والقانونيون من حيث لزوم جبر الضرر ، لكنهم مختلفون من جهة منشأ الضمان ضيقا وسعة ، فهو في القانون مبني على مبدأ اختزال الجبر في الذمة المالية ، بينما هو في الفقه يتنوع وتتعدد أسبابه. لذلك لا يقول الفقهاء بالمسؤولية العقدية بل بضمان العقد إذا اشتُرط ، وهكذا فإن امتناع أحد العاقدين مثلا عن تنفيذ التزاماته لا يستوجب في الفقه الاسلامي تعويضا ماليا للعاقد المتضرر من التأخير كما في القانون ، وذلك لسببين:
  الحاكم في الفقه الاسلامي قادر على إجبار المتلكئ على تنفيذ التزاماته بحكم القضاء ووازع السلطان.
  لا يعوض ما ليس ماليا بما هو مالي ، فترتيبه على مجرد التأخر هو عند الفقهاء أكل لأموال الناس بالباطل.
   وعلى هذا الأساس فإننا قد استوجبنا تمييز أنواع الضمان بحسب ما تقرر عند الفقهاء.

·       أسباب الضمان:

   للضمان أسباب عديدة اشار إليها الفقهاء في مواضع متعددة من أبواب الفقه و اختلفت آراؤهم في بيانها وسنقتصر على ذكر ثلاثة أسباب: العقد ووضع اليد والإتلاف.

1.    ضمان العقد:

   ضمان العقد إنما يعني التعويض المالي عن عين مالية تلفت قبل تسليمها إلى مستحقها ، في يد من التزام بذلك بموجب عقد ، وعلى هذا فإن ضمان العقد لا يكون إلا في عين معينة في صلب العقد ، كالمبيع أو الثمن إذا كان عينا معينة في عقد البيع أو الأجرة إذا كانت عينا معينة في عقد الإيجارة. وتأخير تنفيذ الإلتزام لا يقابل بتعويض مالي عند جمهور الفقهاء ، إذ التعويض المالي شرعا إنما يعني قيام مال بدل مال ما أتلف وتأخير التنفيذ ليس بمال فلا تعويض فيه لأنه ضرب من أكل أموال الناس بالباطل.

2.    ضمان اليد:

   وتقسم الأيدي إلى نوعين : يد أمانة ويد ضمان .

أولا: يد الأمانة: وهي ما كانت عن ولاية شرعية ، ولم يدل الدليل على ضمانها.
   ومن أمثلة يد الامانة ، يد الوكيل ويد الشريك والوديع فهذه كلها قد أذن المالك أو من قام مقامه بالاستيلاء عليها.
   حكم يد الأمانة: لا يصمن صاحب يد الأمانة إذا تلف ما كان تحت يده من أمانة غلا إذا قصر في حفظها ، أو تعدى عليها.

ثانيا: يد الضمان: تعتبر يد الضمان ضامنة لتلف أو هلاك المال الذي يقع تحت حوزتها ، ولو كان التلف أو الهلاك من غير تعد أو تقصير ، سواء أكان التلف من صاحب اليد أو من أجنبي ، أم كان بسبب لا يد لصاحب اليد فيه كالسبب السماوي.

ثالثا: الإتلاف: الإتلاف هو إخراج الشيء من أن يكون منتفعا به منفعة مطلوبة عادة.
   وقد قسم الفقهاء الإتلاف إلى نوعين:

   إتلاف بالمباشرة: هو إتلاف الشيء بدون أن تكون هناك واسطة أو هو ما أثر في التلف وحصله ، أو هو إتلاف الشيء بالذات ، ويقال لمن فعله: فاعل مباشر مثل الإحراق والإغراق ، وهدم الدور وأكل الأطعمة ، وتمزيق الثوب ، وقطع الأشجار وكسر الإناء وإتلاف الدراهم والدنانير.
   والعلماء اتفقوا على أن الإتلاف مباشرة يكون سببا للضمان ، سواء أكان الإتلاف عمدا أم خطأ أم سهوا ، وسواء أكان المتلف صغيرا أو كبيرا عالما بأنه مال غيره أم جاهلا لأن ضمان المتلفات ينظر إلى أنه بدل مال لا جزاء فعل.

   إتلاف بالتسبب: ومعنى ذلك إحداث أمر في شيء يفضي إلى تلف شيء آخر وعرفه ابن عبد السلام رحمه الله في قواعده: " التسبب ايجاد علة المباشرة ".

   ومثال ذلك: حفر البئر في موضع لم يؤذن فيه ، كالطرقات العامة ، أو إيقاد النار قريبا من الزرع ، أو تمزيق الوثائق والسندات المتضمنة لإثبات الحق والاحتجاج بها .

·       الفروق بين ضمان العقد وضمان اليد وضمان الإتلاف:

   أشار السرخسي لهذه الفروق بقوله: " إن ضمان الإتلاف مبني على المماثلة ، وبهذا فارق ضمان العقد ، فإنه غير مبني على المماثلة باعتبار الأصل ، بل على المراضاة ، وكيف ينبني على المماثلة والمقصود بالعقد طلب الربح ، ثم ضمان العقد مشروع وفي المشروع يعتبر الوسع والإمكان ، ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي ، فاسدا كان العقد أو جائزا فيسقط اعتبار التفاوت الذي الذي في وسعنا الإحتراز عنه في ضمان العقد ، فأما الإتلاف فمحظور غير مشروع ، وضمانه مقدر بالمثل بالنص ، فلا يجوز إيجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الإتلاف".
  كما يتضح الفرق بين ضمان العقد من جهة وضمان اليد أو الإتلاف من جهة أخرى على الآتي في الأمور التالية :

1.    الأهلية: يشترط لضمان العقد عند الحنفية أهلية الاداء الناقصة أي التمييز ، وعند جمهور الفقهاء: البلوغ مع العقل. وأما في ضمان الإتلاف فيكفي للإلتزام به أهلية الوجوب الكاملة ، أي لا فريق بين الصبي مميزا أم غير مميز ، فإنه يلتزم بضمان المتلفات.
2.    كيفية التعويض: ، فيكون التعويض في ضمان العقد حسبما جرى الإتفاق عليه في العقد الذي تراضى عليه الطرفان عند العقد ، لأن الربح هو المقصود من العقد ، أما في ضمان اليد والإتلاف فيراعى المماثلة بقدر الإمكان ، لأن المقصود من ضمان المتلفات هو جبر الضرر الواقع.
3.    المسؤول عن التعويض: قد يكون هناك تضامن في المسؤولية في ضمان العقد ، كما في الكفالة حيث يمكن للدائن مطالبة الأصيل أو الكفيل بالدين المكفول به. أما في ضمان الإتلاف فإن كل شخص مسؤول عن جنايته ، لأن المبدأ المقرر في الإسلام هو المسؤولية الفردية: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر:38].

·        أركان الضمان:

   حسب التفريع الفقهي ، فيمكن تناولها في ركنين:
     العدوان بشروطه ( الفعل الضار ، حصول الضرر ، الإفضاء أو تلازم الفعل الضار والضرر ).
     الواجب في الضمان وهو نتيجته (أي التعويض) .

* الركن الأول: العدوان:

1.   الفعل الضار:

 الفعل الضار هو " ما صدر عن إهمال أو تقصير نتجت عنه المجاوزة إلى حق الغير من غير وجه مشروع ".

   ~ فعل ضار حسي: والحسي هو الضرر المادي المتحقق بالوقوع الذي ترتب عليه ضرر بالغير استوجب التضمين.

   ~ فعل ضار نفسي: (ويسمى أيضا سلبيا لأنه غير مادي) وهو الذي يحصل بالكف أو الإمتناع عن الفعل.
  والإعتداد هنا إنما بالفعل الضار المادي الذي لا خلاف بين الفقهاء في كونه موجبا للضمان ، وذلك لأمرين:

أ‌.        كونه فعلا محظورا شرعاً: معناه أن الفعل الضار كان سببا للتضمين لما كان فعلا محظورا غير مشروع في أصله ، وقد استثنى الفقهاء من قاعدة التعدي ثلاث حاللات ، لا يعتبر الفاعل فيها متعديا في حكم الشرع ولو تحقق فيه مناط التعدي ظاهراً وهي :
- حالة الدفاع الشرعي عن النفس أو المال أو العرض.
- حالة الضرورة.
- حالة تنفيذ أوامر ذي الولاية الخاصة أو العامة.

ب‌.   كونه حكما من أحكام الوضع: يقول الفقهاء بهذا الصدد " إن العمد والخطأ في الأموال سواء" ، معنى ذلك أن الفعل الضار ليس من أفعال التكليف التي يشترط لاعتبارها أهلية المرتكب ولا نيته في الإضرار ، فأثر الفعل في إتلاف المال كاف لترتيب الضمان ، ولذلك فليست أهلية الأداء شرطا في التضمين ، فالصغير غير المميز كالكبير البالغ العاقل المدرك في مسؤولية التضمين عما ترتب على أفعاله الضارة ، وكذلك المجنون والمعتوه والنائم ، فيما يتلفون من أموال الغير.

2.الضرر:
   الضرر هو علة الضمان ، والمراد بالضرر كل أذى يصيب الإنسان فيسبب له خسارة مالية في أمواله سواء كانت ناتجة عن نقصها ، أو عن نقص منافعها أو عن زوال بعض أوصافها ونحو ذلك وعن كل ما يترتب عليه نقص من قيمتها عما كانت عليه قبل حدوث ذلك الضرر. والضرر نوعان :
   ~ ضرر مادي: لا خلاف بين فقهاء الشريعة في اعتباره مطلقا علة للتضمين ، وهو النقص الذي يلحق المال بإتلافه أو تعييبه أو التأثير على حق مالكه في استعماله واستغلاله لمصلحته ، ويجب في هذا الضرر التعويض لصاحب المال بقدر ما تلف منه ، ليحل مال مكان مال.
    ~ ضرر معنوي: وإن كان لهذا النوع اعتبار مهم في الفقه القانوني ، إلا أن في اعتباره خلاف فقهي ، والضرر المعنوي هو ما لا يصيب الإنسان في مال ظاهر ، بل هو ضرر منصب على ما ليس مقدرا بمال ، كشرف الإنسان وعرضه من الأذى كما في الإحتقار والقذف والسب والتشهير. ولا يخضع هذا النوع من الضرر لقواعد التعويض في الفقه الإسلامي ، وليس ذلك من إنطار هذا الفقه لهذا الضرر ، بل العكس ، إذ يرى الفقهاء أن جسامته تقتضي التعزيز والعقوبة

3.    تلازم الفعل الضار والضرر:

   وهذا التلازم بين الفعل الضار وبين الضرر قد يقع من طريق المباشرة أو من ط ريق التسبب أو باجتماعهما معا .

~ المباشرة:
   هي اتصال الفعل الضار ذاته بالمال ، فيتلفه ، أو هي إيجاد علة إتلافه ، دون أن يتوسط بينهما فعل آخر يتسبب عنه الضرر ، فهذا ضرر مباشر. ولا خلاف في تضمين من باشره واحدثه ، وذلك لان فعله علة التلف بدليل نسبته إليه ، كإحراق الزرع ، أو قطع الشجر ، أو هدم البنيان أو قتل الحيوان ، أو إحراق المتاع ، أو تمزيق الثوب.

~ التسبب:
   هو إحداث أمر في شيء يفضي إلى تلف شيء آخر على جري العادة ، ويقال لفاعله مسبب ، فمثلا من حفر حفرة في الطريق العام فيسقط فيها حيوان أو تلقي به الريح فيها ، فيتلف ضمن الحافر لتعديه بالحفر ، وتسببه في الإتلاف ولنسبة الإتلاف إليه عادة سواء بسقوط الحيوان من تلقاء نفسه ، أو بفعل الريح. أما كونه متعد فلأنه حفر في الطريق العام ، فاجتمع التسبب والتعدي ، فيترتب على ذلك حكم التضمين . بخلاف ما إذا حفر أحد حفرة في أرض يملكها ثم سقط فيها حيوان لغيره فتلف فإنه لا يضمن ، لأنه وإن كان متسببا لكنه غير متعد والمتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعدياً.

 قاعدة: إذا اجتمع المباشر أو المتسبب يضاف الحكم إلى المباشر . كمن حفر بئرا لإنسان ليقع فيه ، فجاءه آخر فألقاه فيه ، فهذا الأخير مباشر والأول متسبب ، فالضمان على الثاني دون الأول تقديما للمباشرة.

* الركن الثاني: الواجب في الضمان: التعويض:

   يلزم التمييز في الفقه الإسلامي بين مبدأ القصاص في الجنايات وبين مبدأ التعدي على المال والإضرار به ، فالقصاص يكون في اعتداء نفس على نفس مع تحقق القصد والنية وثبوت أهلية المعتدي. بينما لا يرقى العدوان المالي إلى الإعتداء على النفس ، فهو مجرد اعتداء على المال لا على صاحبه. ولا يجوز للمتضرر أن يتنازل عن حقه في التعويض ، وعلة عدم الجواز أن الإعتداء غير مأذون شرعا أصلا ليقدم المكلف على الإذن فيه.
وعلى هذا فالقصد من التعويض هو تغطية الضرر الواقع بالتعدي أو الخطأ ، والمبدأ المقرر في المسؤولية المدنية ، هو عدم مقابلة الإتلاف بمثله ، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
   قال ابن القيم: " إن مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين".
   ~ تعويض مثلي: والقاعدة العامة في تضمين الماليات: هي مراعاة المثلية التامة بين الضرر وبين العوض كلما أمكن.
   ~ تعويض قيمي:أما إذا كان المال قيمياً وهو يشمل الأراضي والدور والعمارات والمصانع والسيارات المستعملة ونحوها ، فيجب ضمان القيمة باتفاق العلماء لأنه تعذر الوفاء بالمثل تماما صورة ومعنى. والقاعدة في ذلك عند الفقهاء: : إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل".

وقت التعويض:
   وقت التعويض متأثر بنوع المتلف: ( أهو من المثليات أم من القيميات ؟) ، والمساواة بينهما خاضع لتقلبات السوق والأسعار. فكان بذلك لمعرفة وقت التلف تلك الأهمية التي له عند الفقهاء.
   فالمالكية والحنفية في الراجح من مذهبهم لا يفرقون بين الغصب والإتلاف من حيث وقت وجوب التعويض ، بحيث يجب عندهم التعويض في المتلف يوم الإستهلاك والإتلاف ويجب في المغصوب وقت الغصب.
   وذهب الشافعية وتبعهم الحنابلة في وجوب التعويض في الإتلاف الذي لم يقرن بغصب اعتبارا من يوم الإتلاف فيكون بمثله إن كان مثليا، وبقيمته إن تعذرت المماثلة بحسب قيمته في مكان الإتلاف . أما في الغصب فقد ألحوا على تعويضه بتقدير أقصى قيمة له من حين الغصب إلى حين وقت وجوب رد المغصوب. فحسب هذا الرأي ، فإن من غصب عجلا مثلا فمكث بيديه إلى أن صار ثوراً واكتنز لحمه فإنه يضمن عندهم بهذا الوقت الأخير لا وقت الغصب.

تمت المحاضرة بحمد الله

لتحميل المحاضرة بصيغة PDF إضغط هنا

0 تعليقات على " المحاضرة الثامنة والأخيرة في مادة نظرية الإلتزام في الفقه الإسلامي "